سألنى صديقى المتشكك:
ألا ترى غرابة وقسوة فى بشارة زكريا الكاهن أبو يوحنا المعمدان؟ لقد أتى الملاك بخبر مفرح له، حيث أنه سيكون له ولد كما طلب قبل ذلك. ولابد أن زكريا الكاهن ملئ بمشاعر الخوف والرهبة لمجرد دخوله إلى الهيكل فى هذا اليوم العظيم، فظهر له ملاك يتحدث إليه. ويقول الكتاب المقدس: "فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف" (لو1: 12).
فالتوتر والخوف هو سيد الموقف. ولهذا عندما سمع خبر ولادته ولد، سأل السؤال الطبيعى لشيخ مثله: "كيف أعلم هذا لأنى أنا شيخ وامرأتي متقدمة فى أيامها؟ فأجاب الملاك وقال أنا جبرائيل الواقف أمام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا وها أنت تكون صامتًا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذى يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامى الذى سيتم فى وقته".
(لو1: 18، 20) وفى النص ألمس قسوة الملاك وشدته بل ورده السريع بالعقاب على شيخ كهل. والعقاب بالصمت وعدم الكلام لمدة تسعة أشهر حتى تلد أليصابات زوجته مولودها. لماذا كل هذا؟ مع العلم أن القديسة العذراء مريم سألت ذات السؤال: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلًا؟".
(لو1: 34) ومع هذا لم يعاقبها! لهذا أرى قسوة الملاك مع زكريا الكاهن الشيخ، فهو لا يستحق ولا يتحمل مثل هذا العقاب. وما هى حيثيات الحكم القاسي؟
الرد:
هنا الموقف يبدو ظاهريًا قسوة من ملاك الرب على كاهن عجوز لمجرد سؤاله سؤالًا منطقيًا، لكن الأمر يحمل أبعادًا أخرى لابد أن نفهمها ونعيها جيدًا.
أولًا: الملاك جبرائيل هو رئيس ملائكة مسئول عن الوقوف أمام الله وأيضًا إعلان بشارة مجد الله وسلطانه على كل خليقته . فمعنى اسم جبرائيل (جبروت الله أو سلطان الله). وقد قام بتبشير دانيآل (دا8: 16)، كما أيضًا قدم البشارة لزكريا الكاهن والقديسة العذراء مريم، فهو مسئول عن بشارة إعلان سلطان الله وتحركاته فى وسط خليقته.
ثانيًا: زكريا الكاهن وهو كاهن من فرقة أبيا وقد قسم داود الفرق الكهنوتية، إلى 24 فرقة يخدم كل منها أسبوعًا ويسمى رؤساؤها باسم رؤساء الكهنة. وكانت تلقى قرعة يوم السبت لترتيب الخدمة فى الهيكل.
وكان على الكاهن أن يدخل الهيكل يوم السبت ليبخر فى القدس وهو يحمل فى يده كأسًا به دم ليرش على قرون مذبح البخور. وفى اليد الأخرى مجمرة البخور للتبخير أمام الرب. وكان كل الشعب يقف خارج الهيكل فى صلاة حتى يخرج الكاهن من الهيكل.
لهذا كان الشعب واقفًا فى الخارج فى حاله الصلاة وانتظار لخروج الكاهن، فخروجه يعنى قبول الذبيحة أمام الله.
ثالثًا: لم يتحدث الله بالرؤى أو الملائكة أو الأنبياء لشعبه لمدة 400 سنة من نهاية نبوة ملاخى إلى اليوم الذى أتى فيه الملاك إلى زكريا الكاهن. فكانت رسالة الملاك لزكريا هى أول رسالة تأتى من الله لشعبه بعد طول غياب بسبب فسادهم وبعدهم عن الله وتشتت معظمهم فى البلاد بسبب السبي، فكانت كلمة الرب لهم عزيزة إلى أن أتى هذا الملاك بالبشارة لزكريا.
رابعًا: كان زكريا الكاهن وكل الكهنة الأبرار والمخلصين فى عبادتهم يصلون باستمرار لكى ما يأتى مخلص لشعب الرب، فالحالة الروحية كانت سيئة للغاية والحالة السياسية أيضًا كانت تحت السيطرة وعبودية حكم الرومان. وهكذا كان شعب الرب قديمًا فى أرض مصر إلى أن أرسل لهم الرب موسى. وهكذا كانت صلوات المخلصين أن يرسل الرب لهم مخلصًا.
وهذه كانت صلاة زكريا الكاهن أن يرسل لهم الرب ولدًا ولكن لا يكون طفلًا عاديًا، بل يكون مرسلًا من الله ليرد الشعب إلى عبادة الرب الحقيقية. ومن هنا نفهم بشارة الملاك لزكريا التى قال فيها: "لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابنًا وتسميه يوحنا ويكون لك فرح وابتهاج وكثيرون سيفرحون بولادته لأنه يكون عظيمًا أمام الرب وخمرًا مسكرًا لا يشرب ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس ويرد كثيرين من بنى إسرائيل إلى الرب إلههم ويتقدم بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى الأبناء والعصاة إلى فكر الأبرار لكى يهئ للرب شعبًا مستعدًا" (لو1: 13- 17).
خامسًا: ونأتى للسؤال المهم: لماذا عاقب الملاك زكريا الكاهن بالصمت تسعة أشهر حتى يولد الطفل يوحنا؟
أظن أنه لم يكن عقابًا، بل كان تنفيذًا لمشيئة إلهية فى هذا الأمر وأبنى اعتقادى على حيثيات مهمة:
1ـ لم يذكر الوحى المقدس أن الملاك غضب أو عاقب. لكنه عرفه بنفسه أنا جبرائيل الواقف قدام الله. لم يكن من حق الملاك جبرائيل أن ينزل بأى عقاب على أى شخص. لأن الملائكة هى "جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب1: 14).
فالملاك مرسل برسالة ولكنه مرسل أيضًا بمهمة إسكات زكريا الكاهن لمدة تسعة أشهر حتى يتم كلام الرب وتلد أليصابات التى كانت عاقرًا. وما يؤكد هذا أن أليصابات أخفت نفسها ولم تعرف أحد بهذا السر إلى أن أتت إليها القديسة مريم بالبشارة الثانية التى تعلن ميلاد المخلص يسوع المسيح. ليكون الإعلان الأول هو: "من أين لى هذا أن تأتى أم ربى إلىّ؟" (لو1: 43). فأخفى الله هذا الأمر عن الشعب إلى أن يولد يوحنا المعمدان ويعرفوا القصة الكاملة بميلاد يوحنا الذى يهئ طريق المولود الجديد المخلص يسوع المسيح.
2ـ كان الهدف من إسكات يوحنا هو إيقاف لكلمات عدم الإيمان الذى نطق بها. وكان من الصعب على زكريا الكاهن الشيخ أن يصدق أنه سيكون له ابن. وحتى لا ينشر كلمات الشك فى نفس زوجته أليصابات. لم يصدق وقد أعلن الملاك هذا بالقول: "لأنك لم تصدق كلامى الذى سيتم فى وقته" (لو1: 20(
3ـ لما خرج زكريا سألوه عن إبطائه فى الهيكل. كان لابد أن يحكي لهم عن ما رآه فى الهيكل. ولم يكن الشعب فى ذلك النضج الروحى الكافى ليقبل هذا الإعلان، بل على العكس إذا عرفوا هذا الأمر، فسيقاومونه ويرفضونه وقد يفرزون زكريا من الكهنوت.
ويقامون الصبى وقد يشرعون فى قتله. كما قاوموه بالفعل حين بدأ رسالته. وقاموا رب المجد يسوع حيت أتى لهم كارزًا وشافيًا لأمراضهم فالقادة الدينيون مقاومون لكل ما يعمله الرب فى وسطهم ويتمنون أن يظلوا قادة لهذا الشعب، سالبين لأموالهم عن أنهم يشتركون فى عمل الله وينتظرون خلاصه. وصفهم السيد بالقول: "عميان قادة عميان" (متى 14: 15)، ولم يصدقوا أن بشارة يوحنا كانت من الله (متى 21: 25). لهذا كان لابد من إخفاء الأمر عنهم حتى يتم بالفعل ولا يعرقلونها.
4ـ كانت فرصة سكوت زكريا الكاهن هى فرصة لفهم الإعلان الإلهى لأنى رأيته يتحدث بعد ميلاد يوحنا بإعلانات عن المخلص الحقيقى وعن الافتقاد الإلهي لشعب الرب، كما تحدث عن الفداء فكانت أول كلماته: "مبارك الرب إله إسرائيل لأنه افتقد وصنع فداء لشعبه وأقام لنا قرن خلاص فى بيت داود فتاه كما تكلم بفم أنبيائه القديسين الذين هم منذ الدهر" (لو1: 68- 70). ففرصة السكوت كانت فرصة للبحث فى كتب الأنبياء وفهم تحقيق النبوات بمجئ الرب يسوع المسيح كمخلص لشعب الرب. كما أيضًا فهم لدور يوحنا المعمدان وهكذا خاطبه بالقول: "لأنك تتقدم أمام وجه الرب لتعد طرقه" (لو 1: 76). لهذا تربى الصبى يوحنا المعمدان بفهم وإدراك لدوره الأساسى فى إعادة الرجاء لشعب الله وإعادتهم للتوبة والارتباط بالرب من جديد ليهئ الطريق لرسالة الفداء والخلاص.
لهذا أثق أن السكوت ترتيب إلهى مسبق لتتميم خطة الله العالية فى إعلان خلاصه وفدائه للبشرية بميلاد رب المجد يسوع الله الظاهر فى الجسد.
د. إيهاب ألبرت