سألني صديقي المتشكك: مَن هذا الإله الذي تعبدونه؟
ولي في قصة الأصحاح الأول من سفر الخروج ملحوظة مهمة. لقد أوصى فرعون القابلتين شفرة وفوعة، أن يقتلا أولاد العبرانيات في ولادتهم كي يضعفوا شعب العبرانيين فى أرض مصر. لكن يقول الأصحاح الأول من سفر الخروج: "ولكن القابلتين خافتا الله ولم تفعلا كما كلمهما ملك مصر بل استحيتا الأولاد. فدعا ملك مصر القابلتين وقال لهما: لماذا فعلتما هذا الأمر واستحييتما الأولاد؟ فقالت القابلتان لفرعون: إن النساء العبرانيات لسن كالمصريات فإنهن قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة. فأحسن الله إلى القابلتين ونما الشعب وكثر جدًا وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتًا" (خروج1: 17-21).
وهنا أقف أمام هذا الإله المتحيز لشعب ساكن في أرض مصر يطلب خيرهم، بغض النظر عن مصلحة من أفسحوا لهم المكان الساكن في أرضهم. كما أن الله يبارك القابلتين اللتين خدعتا فرعون مصر ولم يطيعا أوامره وعند سؤالهن كذبتا عليه وقالا إن العبرانيات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة. فباركهما الله وصنع لهم بيوتًا. هل هذه قصة تليق بهذا الإله؟ هل يبارك الله المخادع والكذاب لأنه نجح في كذبته وخداعه؟! وهل هنا تكفي قابلتان فقط لكل مواليد شعب الله الذي خرج من مصر نحو600 ألف رجل؟
الرد:
لقد أتى الأصحاح الأول من سفر الخروج بتمهيد عن الحالة السياسية والاجتماعية التي كان يعيشها شعب الله قديمًا في أرض مصر. ليعلن عن مدى الذل والمهانة التى تعرض لها الشعب بعد موت يوسف. لقد دخل يعقوب وأولاده إلى أرض مصر وكان عددهم سبعين فرد، لكنهم خرجوا من أرض مصر حوالي 603 ألف رجل من فوق عشرين سنة أي ما يقرب من أكثر من 2 مليون نسمة على الأقل. أحب أن أوضح أيضًا أن هذه الفترة قاربت عن أكثر من 400 سنة فيوسف مات سنة 1804 ق.م. وامتدت فترة غضب فرعون من 1525ق.م إلى 1445 ق.م، وكان هذا على يد تحتمس الأول ،وبعده من الفراعنة وحتى خروج موسى، بعد عبور البحر الأحمر وغرق فرعون أمنحوتب الثاني، في لجة البحر الأحمر.
لقد دبر فرعون مصر مشروع لإبادة وتقليل عدد شعب إسرائيل في أرض مصر. ولكن ما هو هدف هذا المشروع؟
1- إضعاف هذا الشعب الذي أصبح قويًا في التعداد والقوة لئلا ينضموا إلى أعدائهم ويغلبوهم.
2- كان الفراعنة في ذلك الوقت في فترة التعافي من حكم الهكسوس الذي دخلوا إلى مصر 1760 ق.م وظلوا فى الحكم حتى 1640 ق.م لكنهم طردوا نهائيًا بعد أن مرروا المصريين 1540ق.م. لهذا كان على الفراعنة أن يتخذوا الحذر لئلا يقعوا تحت حكم شعب آخر مثل شعب إسرائيل بعد أن أضعفهم الهكسوس.
لهذا أتى فرعون ملك مصر (تحتمس الأول) وأوصى القابلتين أن يقتلا كل ذكر يولد في بيوت العبرانيين ويستحييا البنات.
ويذكر الكتاب المقدس اسم القابلتين تكريمًا لهما، فهما شفرة (معنى اسمها جمال ورقة) وفوعة (معنى اسمها إشراق وروعة)، فكانتا صاحبتا أسماء جميلة.
لكن هاتان القابلتان تتميزان بصفات مهمة جدًا تجعلهما صاحبتي جمال وروعة وإشراق.
أولاً: خافتا الله: ويكرر الوحي المقدس هذه الصفه مرتين فى هذا الأصحاح (ع17، 21)، لأن مخافة الرب من أهم الصفات التي تحدد شخصية الإنسان وقراراته وأفعاله "هوذا مخافة الرب هي الحكمة" (أي28: 28)، "رأس الحكمة مخافة الرب" (مز111: 10)، "مخافة الرب رأس المعرفة" (أم1: 7)، "كما أن مخافة الرب بغض الشر" (أم8: 13)، والنتيجة هي "مخافة الرب تزيد الأيام" (أم10: 27)، "مخافة الرب ينبوع حياة" (أم14: 27) ويقرر الحكيم أن "القليل مع مخافة الرب خير من كنز عظيم مع هم" (أم15: 16)، ومن هنا نكتشف أن مخافة الرب هي سر من أسرار الحياة المباركة الناجحة. وتمتعت هاتان القابلتان بهذه الصفة لهذا كانت النتيجة الطبيعية هي بركة الله والإحسان الإلهي لهما.
ثانيًا: تحيدان عن الشر: لم يقتلا أطفال بني إسرائيل. فأمر فرعون هو بالقتل. وهذا شر وخطية عظيمة لا يقبلها الله. ولا الضمير ولا الإنسانية أو القيم الأخلاقية العادية. فليس من الطبيعي أن يقتلا أطفالاً مولودين حديثًا قبل أن يعيشا. وهذا ضد عملهم أيضًا، فالقابلة وظيفتها أن تساعد المرأة في الولادة ثم تعتني بالطفل وتساعده على التنفس حتى يحيا ويتنفس أنفاسه. فهما قامتا بدورهما وواجبهما فى عملهما ولم يفعلا هذا الشر بقتل الأطفال الأبرياء.
ثالثًا: فضلا طاعة الله عن الناس: لقد كان أمر فرعون هو القتل، لكن أمر الله هو رفض هذه الفكرة مهما كان هذا المطلوب قتله، لكنهما فضلا طاعة الله بدلاً من طاعة الناس وهكذا هتف بطرس أمام المجمع اليهودي قائلاً: "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" (أع5: 29)، وطاعة الله أفضل من محرقات وذبائح كثيرة. فالطاعة أهم من العبادة، لهذا أطاعت القابلتان الله أكثر من الناس.
رابعًا: لم تكذب القابلتان على فرعون: لأن كلامهما حقيقة علمية صحيحة "إن النساء العبرانيات لسن كالمصريات، فإنهن قويات يلدن قبل أن تأتيهن القابلة" (خر1: 19)، فالنساء العبرانيات قويات من جراء العمل الشاق اللاتي يقمن به في البيوت وفي أيضًا مساعدة أزواجهن فى صناعة الطوب التي استخدمهم المصريون فيها.
وأيضًا المرأة القوية يمكنها أن تلد دون مساعدة أحد. فالولادة الطبيعية علميًا يمكن أن تتم دون مساعدة طبيب أو قابلة بنسبة 50% على الأقل بالأخص في المرة الثانية أو الثالثة وما بعدها. والأطباء الذين عملوا في قرى وصعيد مصر يعرفون جيدًا أن المرأة يمكنها أن تلد دون مساعدة أحد إن كانت فى حالة صحية جيدة. وهذا ما قالته القابلتان ولا يحمل أي كذب في هذا.
خامسًا: كانت هاتان القابلتان على الأرجح ليسا وحدهما في هذه المهنة لكنهما كما يقول "جون ماك آرثر" (عالم لاهوتي) هما كانتا الرئيستين المسئولتين عن القابلات العاملات في هذه المهنة، لأنه لا يعقل أن يكون لشعب كبير ويتكاثر بهذا الشكل مجرد قابلتين تقومان بمهمة التوليد لهم. لقد كانتا قائدتين لهذه المهنة لهذا تحدث معهما فرعون. وليس من المقبول أن يصدر أمرًا تحريضيًا على القتل للأطفال كل أبناء مهنتهما.
ومن هذه الصفات والمعلومات نؤكد صدق القصة وصحة موقف هاتين القابلتين. وعلى هذا هما يستحقان بركة الله لهما وإحسانه لهما.
د. إيهاب البرت
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.