"مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ" (رو11 :33)
كثيرًا ما لا نفهم الله العظيم بطريقة صحيحة.. فهو الإله القدير الذى خلقنا على صورته كشبهه وهو الإله المحب الذى قدم ابنه فداء عنا.. ومع كل ما قدمه لنا قد لا
نفهمه بطريقة صحيحة وتولد في داخلنا أسئلة كثيرة ونوجه اتهامات كثيرة له.. وتتولد هذه الأفكار المغلوطة لسببين مهمين:
1- عدم فهم لمعاملات الله مع البشر.. فهو الإله كلى الحكمة لهذا "ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء" (رو11: 33).
2- عدم فهم صحيح لكلمة الله المدونة بين أيدينا وهى الكلمة المقدسة المعصومة من الخطأ والمحفوظة بقوة علوية إلى يومنا هذا.
وسنقدم لك عزيزي القارىء في كل مرة فكرة مغلوطة عن الله حتى نفضح كذب هذه الأفكار ونصححها ليكون لنا أن نفهم أكثر عن إلهنا.
(متى 25: 24- 27)
"يا سيد عرفت أنك إنسان قاسٍ تحصد حيث لم تزرع وتجمع حيث لم تبذر فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك في الأرض هوذا الذى لك فأجاب سيده وقال له أيها العبد الشرير والكسلان عرفت أنى أحصد حيث لم أزرع وأجمع من حيث لم أبذر فكان ينبغى أن تضع فضتى عند الصيارفة فعند مجيئي آخذ الذى لى مع ربا"
وأمام هذا المثل الكتابى تبرز أسئلة كثيرة.. هل حقًا هذا السيد قاس؟ ماذا يعنى هذا المثل.. وهل هذا العقاب مساوٍ لما عمله أم أنها قسوة أيضًا من السيد؟؟.. وهل يشجع المسيح على المعاملة بالربا؟.. ولكن نحتاج أن نفهم هذا المثل لكى نجيب على الأسئلة الجوهرية التى تجهل في طياتها أفكارًا مغلوطة عن الله.
أولاً: معنى المثل:
تحكى قصة سيد مسافر وهو يملك الكثير من المال فأراد أن يترك بعض من أمواله مع عبيده ليتاجروا بها... هل هذه قسوة من السيد.. هل هى سخرة وعبودية لهم.. أم أنها تحمل معنى الحب؟؟. فمن هنا نستخلص صفات هذا السيد.
1- المحب العاطى: لقد كان هذا التكليف يحمل أسمى معانى الحب لعبيده، فعندما يسافر لن يجد العبيد ما يعملونه بل يظلون بلا عمل بطالين كما أنهم لن يكون لهم ما يقوتهم أو يدبر بيوتهم ويطعم أولادهم. لهذا من محبة السيد لهم ورحمته بهم سلم لهم أمواله ليتاجروا بها ويربحوا بها وزنات أخرى بل يصيروا في هذه الحالة أسيادًا وتجارًا أحرارًا بدلاً من أن يعملوا كالعبيد لأنهم سيكون لهم تجارتهم الخاصة.
السيد هنا يرمز إلى الرب يسوع له كل المجد وهو المسافر صاعدًا للسماء وعبيده يمثلون من يعملون في ملكوته وفي كرمه.. وهو المحب المنعم الذى أعطاهم الوزنات لكى يتاجروا بها ويربحوا.
2- المدبر الحكيم: فهو لم يعط الكل عددًا واحدًا من الوزنات.. لكنه ميز بينهم فأعطى الأول خمس وزنات وأعطى الأخير وزنة واحدة، أفليس هذا ظلمًا.. ولو ساوى بينهم يكون عادلاً؟!.. بل على العكس، فهذا قمة الحكمة لأنه يؤكد في المثل قائلاً: "كل واحد على قدر طاقته" (متى 25: 15)، فهو العارف بكل منهم عن قرب ويدرك مواهب كل فرد وإمكانياته وقدرته على المثابرة والاستمرار.. لهذا أعطى كل واحد قدر ما يستطيع أن يعمل، لأنه صاحب الميزان وهو العادل الحكيم.. فهو بحكمته يوزع العمل والمواهب والوزنات!
ولكن نأتى للرجل الأخير- صاحب المشكلة- العبد الذى أخذ وزنة واحدة فهو:
أولاً: تمتع بمحبة السيد الذى أعطاه.
ثانيًا: تمتع بحكمة السيد الذى أعطاه على قدر طاقته.
ثالثًا: تمتع بنعمة السيد الذى أعطاه فرصة أن يشارك إخوته في العمل مع أن هذا العبد ضعيف الإمكانيات والقدرة.. لكنه أعطاه فرصته وسط إخوته.
التطبيق العملى:
لقد صعد الرب يسوع إلى السماء تاركًا لعبيده العاملين في ملكوته الوزنات والمواهب والبركات الروحية يستثمرونها ويتاجرون بها .. فيربحون فتكون لهم وزنات جديدة أى اتساع لملكوت الله ونفوس جديدة تدخل الملكوت لتتاجر هى أيضًا.. وفي محبته وحكمته أعطى كل واحد منا على قدر طاقته وما على العبد إلا أن يكون أمينًا في تجارته ونشيطًا في عمله فيربح بنسبة 100% كما فعل العبد الأول والثانى ولكن أتى إلى لب المشكلة ألا وهى...
ثانيًا العبد الكسلان:
فصفات هذا العبد لا تؤهله لأن يكون عبدًا حقيقيًا لسيده:
1- كان صاحب فكر سلبى خاطىء عن سيده.. وهذه هى نوعية الأفكار المغلوطة عن الله فقال له علمت أنك سيد قاس.
2- لم تحمل روح الشكر والتقدير على عطايا سيده فيقول له: "تحصد حيث لم تزرع وتجمع من حيث لم تبذر (ع 24)، فهل لم يزرع السيد أو لم يبذر.. هل السيد لم يقم بواجبه كالعاطى لهذه الوزنات والمؤتمن لعبيده على أمواله؟؟
3- لم يكن على مستوى المسئولية التى وضعها السيد على عاتقه فوجدناه يخفى وزنة سيده في التراب.
4- لقد اعترف العبد على نفسه قائلاً: "أخفيت وزنتك في الأرض" هل نسينا أن هذه الأرض ملعونة منذ القديم يوم أن سقط آدم في الخطية فقال الرب: "ملعونة الأرض بسببك" (تك 3: 17). فالوزنة غرقت في الأرضيات والمشغوليات الترابية المحكوم عليها مسبقًا باللعنة.
ثالثًا العقاب:
لم يحكم السيد على هذا العبد دون أن يوضح لهم حيثيات الحكم، فيقول له: "أيها العبد الشرير والكسلان" فهو لم يتكاسل عن دوره المكلف به فقط لكن أيضًا شرير لأنه رفض استثمار الوزنة الإلهية المعطاة له. فكان الحكم النهائى "اطرحوه في الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان" (ع 30)، وهذا الحكم يؤكد أنه لم يكن عبدًا حقيقيًا بل هو ينتسب للسيد اسمًا وليس قلبًا وعملاً.
رابعًا موضوع الربا:
هل كان يسوع المسيح يشجع الربا؟! فقال للعبد "كان ينبغى أن تضع فضتى عند الصيارفة فعند مجيئى كنت آخذ الذى لى مع ربا" (ع 27)، بالطبع لا.. فالربا هو من يعطى أحد مالاً وهو في حاجة إلى سلفة أو في ضائقة مالية كى يسترده أضعافًا في وقت لاحق. فهو استغلال لضيق السيد ويداين بالربا.
لكن لم يكن هذا هو أمر الرب لنا في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ففى ناموس موسى قال الرب "إن ارتهنت ثوب صاحبك فإلى غروب الشمس ترده له لأنه وحده غطاؤه هو ثوبه لجلده في ماذا ينام فيكون إذا صرخ إلىّ أنى أسمع لأنى رؤوف" (خر 22: 26، 27)، فهو يأمرنا ألا تترك ثوب أخيك رهنًا عندك بل ترده له.. وفي العهد الجديد يقول: "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه، افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم" .
ومن هنا نفهم أن الله لا يقبل الربا الذى فيه تستغل ضيقة أخيك.
لكن في المثل يقول "تضع فضتى عند الصيارفة" أى تضعها في المصارف أى مثل البنوك التى تأخذ المال وتستثمره هى وتتاجر به ثم تعطى صاحب المال أرباحًا عن هذه الأموال.. وهذا ليس ربا لكنه مشاركة في الربح لأن صاحب المال يعتبر شريكًا في الاستثمار وهكذا يكون شريكًا في الأرباح.
أتى هذا النص في ترجمة الحياة "فكان يحسن بك أن تودع مالى عند الصيارف لكى استرده عند عودتى مع فائدته".
والتطبيق الروحى:
كان لذلك العبد أن يستثمر حياته وموهبته في خدمة السيد لكنه تكاسل.. فعلى الأقل كان عليه أن يعطيها للرب فتنمو في القيامة الروحية... قدمها إلى الصيارفة أو البنوك أو كبار التجار لأى كان وضعها في الوسط الروحى والإجتماعات فنمت إلى القامة وزادت في الحجم بدل من أن تدفنها.
لقد كان عليه أن يتاجر بالوزنة لكن أضعف الإيمان فلو كان متكاسلاً وغير قادر على المبادرة بالتجارة وربح النفوس، فعلى الأقل دعها تنمو في حضرة السيد فتكون نموذجًا للمؤمن الذى ينمو في حضرة الرب.
د. ايهاب البرت