لماذا كان المسيح قاسيًا مع المرأة الكنعانية؟
سألنى صديقي المتشكك: هل قرأت في إنجيل (متى 15) كيف خاطب السيد المرأة الكنعانية؟ "لقد أتت إليه وهي تصرخ لأن ابنتها مجنونه جدًا"، وكان هذا الجنون بسبب سكنى الشيطان فيها. كان من الممكن أن يشفيها يسوع بكلمة واحدة دون أن يهينها ويذلها.. لكن للأسف، رأيت السيد وهو يهينها ثلاث مرات:
الأولى: لم يجبها بكلمة (ع 23).
الثانية: إعلانه بأنه لم يرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة (ع 24)، وهذا يحمل رفضًا واضحًا لطلبها.
الثالثة: أهانها بأنه "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب". فهل يليق بالمسيح أن يهين طالبيه بهذه الطريقة؟
الرد:
إن قصة المرأة الكنعانية لم تكن قصة قسوة من رب المجد، لكنها كانت قصة حب تعلن كثيرًا من الحقائق المهمة التي كان الرب يريد أن يعلنها لتلاميذه وللمجتمع اليهودى كله، ولنا أيضًا في هذه الأيام.
لقد كانت قصة حب للأسباب الآتية:
أولاً: لم نسمع كلمة قاسية أو انتهارًا من السيد، بل تعامل معها بصوته الحاني الرقيق والمحب.
ثانيًا: قد يأتي الممتحن بسؤال صعب وعميق في وسط الامتحان لكي يميز به الطالب المفكر والمجتهد.. وعندما يقابل الأستاذ طلبته في الامتحانات الشفوية فهناك طالب ينهي معه الحديث في لحظات لأنه عرف أنه طالب ضعيف في تحصيله وأجوبته.. وقد يستمر لوقت طويل مع طالب آخر لأنه عرف تميزه وأجوبته الصحيحة والعميقة، فأراد أن يبرهن على تميزه بتقديم أسئلة أصعب، ويطيل في امتحانه ليعطيه الدرجة النهائية.
وهذا ما دفع السيد لكي يسأل المرأة أسئلة صعبة، ويطيل في امتحانه ليكشف تميزها وعظمة إيمانها.
ثالثًا: لقد انتهت المقابلة بمدح لها، فقال لها: "يا امرأة عظيم إيمانك". وكلمة امرأة في اللغة اليونانية تعني سيدتي.. يا سيدة المجتمع الراقي.. ولا تعني احتقارًا أو تهوينًا من أمرها.
كما أن المقابلة انتهت بشفاء الابنة بسبب إيمان أمها، وكون أنها "شفيت ابنتها من تلك الساعة" يعني أن يسوع قدم الحب كاملاً.. لم يكن المسيح شخصًا متقلب المزاج أو متغير الفعل حتى يقسو أولاً، ثم يحنو ثانيًا، لكنه تحدث معها بكل الحب حتى أتم الشفاء.
لكن دعونا نحلل معًا كلمات الرب يسوع وأفعاله مع هذه المرأة ونذكر معناها وبركاتها:
1- لم يجبها الرب بكلمة في صراخها الأول وراءه قائلة: "ياسيد ابن داود ابنتي مجنونة جدًا" (مت15: 22). هل كان سكوته إهمالاً وقسوة؟ لا. لكن سكوته كان فرصة لأمرين مهمين، أولاً: لكي يجمع كل التلاميذ وكل اليهود المجتمعين على صراخ هذه المرأة، ويصنع معجزة شفائها أمام الجميع بعد أن يعلمهم درسًا مهمًا، سيتم توضيحه لاحقًا.. ثانيًا: ليرينا الإيمان القوي المعلن في لجاجة واستمرار الطلب من امرأة كنعانية أممية ليخذي إيماننا نحن في هذه الأيام الأخيرة، لأننا نطلب بدون إيمان وبدون إصرار، ومع ذلك نتوقع الاستجابة دون أن نجلس أمامه ونطلب وجهه بإصرار واستمرار. فالإيمان يتم إعلانه في استمرار طلبنا ولجاجتنا في الصلاة.
2- "لم أرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت15: 24).. لقد تحدث الرب يسوع قائلاً: "لي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة" (يو10: 16). كما أن النبوة عنه من بداية الكتاب المقدس "يتبارك في نسلك جميع أمم الأرض" (تك22: 18)، فهل غير المسيح قصده؟!
بالطبع لا.. لأنه قصد أن يعلن في مواضع كثيرة أنه يقدم الحب والخلاص لكل البشر: "لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 15-16). لكن يعلق المفسر اللاهوتي وليم آدي على هذه الكلمات بالقول:- "إن جواب المسيح على تلاميذه بهذه الكلمات يشير إلى خدمته الشخصية على الأرض وهو يعظ ويصنع المعجزات، لكن هذا لا يشير إلى عمله كالفادي والمخلص والوسيط بين الله والناس".
وأمر المسيح تلاميذه بأن ينادوا بالإنجيل لشعبه أولاً: "وأوصاهم قائلاً إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينه للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت10: 5-6)، لكي يتمم مواعيد الآباء في إبراهيم وإسحق ويعقوب، ولكنه في الحقيقة يقدم فداءه وخلاصه لكل الأمم.. وشرح الرسول بولس بالروح القدس هذا الأمر: "أقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء، وأما الأمم فمجدوا الله من أجل الرحمة كما هو مكتوب من أجل ذلك سأحمدك في الأمم" (رو15: 8-9). لكن جواب المسيح ليس إنكارًا قاطعًا لطلبتهم بأنه يرحم هذه المرأة، بل هو إظهار لإرسالية شفائه وخدمته في الجسد، لكن لا مانع من تقديمه هذه الخدمة للأمم كما فعل مع هذه المرأة.
قال يوحنا: "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه" (يو1: 11-12).
3- "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب": إن هذا الخبز معد للبنين فلا بد أن يشبع البنون أولاً.. وقصد بالخبز بركات الإنجيل، من معجزات شفاء وصناعة قوات، ولم يقصد به شخص "يسوع المسيح"، الذي هو "الخبز الحي النازل من السماء الواهب حياة للعالم" (يو6: 33)، أي أنه للعالم كله وليس للبنين فقط.
قد تستخدم كلمة كلاب في الكتاب المقدس بلفظ يعني الإهانة مثل كلاب الأزقة الضالة (1صم17: 3)، (مت7: 6).. ولكن المراد هنا هو كلاب البيت المدللة المسموح لها الجلوس تحت المائدة وبين أقدام أصحاب المنزل حتى يطعموها، والدليل هنا أن المسيح أضاف كلمات ذكرها لنا البشير مرقس: "دعي البنين أولاً يشبعون" (مر7: 27)، لأن البنين يجلسون على المائدة ليشبعوا، ثم ما تبقى من طعام يقدم لكلاب المنزل المدللة المرباة بداخل المنزل.
ويضيف وليم آدي كلمات مهمة: "تزول بعض القساوة إذا اعتبرنا أن المسيح خاطب المرأة بالكلمات التي اعتاد اليهود أن يستعملوها في الكلام مع الأمم دون أن يحكم بصحتها"، لكي يصحح لهم هذه النظرة المتكبرة ومساوئها، وخاصة بعد أن جمع التلاميذ والكتبة والفريسيين على صراخ هذه المرأة، ثم علمهم درس الحب عندما كرر كلماتهم ليدينها عمليًا أمامهم، ليضع قساوة عباراتهم أمامهم بطريقة عملية.
4- قد تبدو الكلمات قاسية لو لم يكن قد قدم كل الحب وقدم أيضًا كل الشفاء، كما مدحها أيضًا أمام هذا الجمع الذي جمعه بصراخها.. لهذا قال لها: "يا امرأة عظيم إيمانك".
وهذا الإيمان حمل لنا معاني جميلة أعلنها السيد من قسوته الظاهرية:
أ- الإيمان الذي يطلب بصراخ.
ب- الإيمان الذي يطلب بلجاجة واستمرار.
ج- الإيمان الذي يحمل اتضاعًا أمام الرب ويعلن سيادته وربوبيته.
د- الإيمان الذي لا يهدأ حتى ينال المكافأة.
لهذا، فقد تبدو كلمات المسيح قاسية، لكنها أظهرت قسوة قلوب المجتمعين من الكتبة والفريسيين على شعوب الأمم.. وفي النهاية، كانت هي البوتقة التي أعلنت لمعان إيمان المرأة الكنعانية الأممية، والنتيجة هي مدح إيمانها. ولم ينل أحد آخر هذا المديح إلا قائد المئة (مت8: 10)، بالإضافة إلى شفاء ابنتها الفوري في تلك الساعة.
ثق أن يسوع لم يحمل يومًا قسوة أو كلمات فظة لأحد، بل على العكس، كانوا يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه (لو4: 22).
د. إيهاب ألبرت
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.