سألنى صديقى المتشكك:
ألم يناد المسيح بتعاليم المحبة، بل وأكد على محبة القريب كالنفس، وشرح لنا مثل السامرى الصالح ليوضح من هو القريب؟ لقد كان قريبه هو شخصيًا يوحنا المعمدان، فى مأزق كبير. وأرسل إليه تلاميذه وهو فى السجن ليسأله: "أنت هو الأتى أم ننتظر آخر؟" (مت11: 3). وكان فى الحقيقة يستعطفه ليخلصه من هذا السجن الذى دخله ظلمًا. ولكنه لم يحرك ساكنًا ولم يهتم بسجنه وتركه فى يد الأشرار. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تركه فى يد هيرودس، ليقتله بدم بارد وبطريقه مخزية لأن راقصة أبهجت هيرودس، فوعدها بنصف المملكة لكنها تركت هذا الكنز لتختار أن تمتلك رأس يوحنا المعمدان، فقدمها لها على طبق وكأنها وجبة رسمية أشبعت قلب الشر والحقد والكره لهذا البار صاحب كلمات الحق والبر.
ألم يكن يوحنا قريب المسيح وابن خالته تقريبًا؟ ألم يسجد له وهو جنين في بطن أمه؟ ألم يكن هو صاحب الصرخات الداعية لتبعية المسيح مشيرًا إليه قائلاً: "هوذا حمل الهن الذى يرفع خطية العالم؟ ألم يعلن عن كونه ابن الله وأنه الذى سيعمد بالروح القدس والنار؟ هل بعد كل هذا يتركه لقسوة وشر الأشرار؟ إن دم يوحنا المعمدان يصرخ من ظلم هيرودس له كما أيضًا من إهمال وترك الرب يسوع له فى هذا الموقف العصيب الذى أودى بحياته.
الرد:
أولاً: يهمنى أن أشكرك يا صديقى المتشكك على ثقتك الغالية وإيمانك فى تعاليم الرب يسوع عن المحبة كما فى قوة عمله وقدرته على خلاص يوحنا المعمدان من يد هيرودس. لقد أنقذ الرب تلاميذه من السجن وفتح أبوابه لهم . كما أيضًا أرسل ملاكًا ليخرج بطرس من السجن وأنقذه من سيف هيرودس الابن. لهذا كان الرب يسوع حقًا قادرًا على إنقاذ يوحنا المعمدان من السجن ومن القتل لكنه لم يفعل ذلك. لماذا لم يتقدم لإنقاذ قريبه من الموت؟ لهذا نؤكد بعض الحقائق:
1- لم يعلن الرب يسوع كراهيته لأحد يومًا ما. ولم يعلن إهماله أو تركه لشخص فى ظرف صعب، بل قدم الحب للجميع، فكتب عنه: "كان يجول يصنع خيرًا ويشفى جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه" (أع10: 38). لقد قدم يسوع الحب والمساندة للجميع دون تمييز بين يهودى أو أممى. خاطئ أو عشار. قدم الحب للجميع.
2- أحب الرب يسوع، يوحنا المعمدان، وقدر خدمته. فعندما أتى يسوع ليعتمد من يوحنا المعمدان نزل أمام الجميع فى نهر الأردن مقدرًا خدمة هذا البار القديس. وعندما وصف خدمته قال: "نعم وأقول لكم وأفضل من نبى، فإن هذا هو الذى كتب عنه ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكى الذى يهيئ طريقك قدامك، الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان" (مت11: 9-11). لقد شجع وبارك الرب يسوع خدمة يوحنا المعمدان، بل واعترف أنه من سانده وأعلن عن لاهوت المسيح وعمله الكفارى. لم يكن هناك ثمة منافسة أو صراع بين الاثنين، بل على العكس، كان هناك دعم وتشجيع كل منهما للأخر.
3- لم يتقدم الرب يسوع لإنقاذ يوحنا المعمدان لأنه أتم رسالته على أجمل وجه، فيوحنا نفسه يدرك أنه "صوت صارخ فى البرية أعدوا طريق الرب" (مت3: 3)، فكان هو الصوت الذى كان ينادى أمام المسيح ليعد الطريق لمجئ المسيح. لقد تمم يوحنا العمل كاملاً ومدحه السيد وسيكافأ فى الأبدية بأضعاف ما قدم لأجل أمانته فى خدمة السيد. لكن لما انتهت رسالته، ذهب إلى أبديته، لكى يأخذ المكافأت والأكاليل. لهذا سمح الله أن يموت المعمدان بعد إتمام الرسالة ليأخذ المكافأة.
4- أراد الرب يسوع أن يظهر ما فى قلب الإنسان من شر وقساوة، فسمح بأن يقبضوا على يوحنا المعمدان، والتهمة الموجهة له هى: "لأن هيرودس نفسه كان قد أرسل وأمسك يوحنا وأوثقه فى السجن من أجل هيروديا امرأة فيلبس أخيه، إذ كان قد تزوج بها لأن يوحنا كان يقول لهيرودس لا يحل أن تكون لك امرأة أخيك" (مر6: 17-18). ولولا هذه القصة وسجن يوحنا لما عرفنا شر الإنسان وقساوته، بل ونجاسته وقسوة قلبه. وكم قتل هيرودس من أبرياء بسبب شر قلبه. لقد قتل هيرودس الجسد، لكنه لم يقتل الرسالة أو النهاية السعيدة.
5- هل سلم المسيح من شر الإنسان وقساوته؟ ألم يقع الرب نفسه تحت هذا الظلم، إذ قبض عليه وجلدوه وصلبوه ظلمًا، دون أن يكون هناك تهمة واضحة؟ ومات لإعلان هذه القسوة والشر، ولكن مات أيضًا لعلاج شر الإنسان وقسوته، إذ قدم نفسه فدية عن الجميع وكفارة لخطايا كل العالم. تعرض الرب يسوع لقسوة الإنسان وظلمه ولم ينقذ نفسه أيضًا لتتميم العمل الكفارى لأجلنا.
6- سمح الله بأن يموت يوحنا المعمدان شهيدًا تكريمًا لخدمته وشهادته واستخدم هيرودس هيروديا كطريق يصل بهذا القديس إلى إكليل البر وإكليل الحياة "لأنه كان أمينًا إلى الموت" (رؤ2: 10)، لهذا ستشهد السماء عن مجد وإكرام لهذا القديس الرائع الذى علمنا قول الحق أمام السلطة، مهما كانت النتيجة، فمات وحملوا تلاميذه جسده وحفظوه.
7- لقد نال هيرودس عقابه على هذه الفعلة. ويقول التاريخ الكنسي إنه بعد انتهاء الوليمة فى بيت هيرودس، ندم هيرودس على قتله يوحنا فأبقى الرأس فى منزله. لكن آرتياس ملك العرب صهر هيرودس حنق عليه لأنه طرد ابنته ليتزوج بامرأة أخيه، فأثار عليه حربًا فغلب هيرودس وشتت شمل جنوده وخرب بلاد الجليل. وقد علم طيباريوس قيصر أن السبب فى هذه الحروب هو قتل هيرودس لنبى عظيم فى شعبه وطرده لابنة آرتياس العربى، فاستدعاه إلى روما ومعه هيروديا، فأخفى هيرودس رأس القديس يوحنا فى منزله وسافر ولما وصل إلى هناك أمر قيصر بخلعه وتجريده من جميع أمواله، ثم نفاه إلى بلاد الأندلس، حيث مات هناك وخرب منزله وصار عبرة لمن لا يعتبر. واتفق بعد سنوات أن اثنين من المؤمنين ذهبا إلى المقدس ليقضيا الصوم الكبير هناك وباتا فى بيت هيرودس فظهر لهما يوحنا المعمدان وعرفهما بمكان دفن رأسه ووصل إلى القديس كيرلس أسقف أورشليم.
8- قد يسمح الله بالألم والتجارب لأولاده لخيرهم ولتتميم مشيئته فى حياتهم. لذلك يقول الرسول يعقوب: "احسبوه كل فرح يا إخوتى حينما تقعون فى تجارب متنوعة عالمين أن امتحان إيمانكم ينشيء صبرًا" (يع1: 2-3).
9- لم تكن رسالة يوحنا، للمسيح "أنت هو الآتى أم ننتظر آخر؟" (مت11: 3) هى رسالة شك أو ضعف فى حياة يوحنا المعمدان فى سجنه، لكنها تحمل إعادة توجيه لتلاميذه ليروا قوات ومعجزات يسوع المسيح فيؤمنون به ويتبعونه. وأظن أن تلاميذ يوحنا كانوا مرابضين باكين على باب سجنه وضعف إيمانهم يقتلهم، لكنه أرسلهم إلى يسوع المسيح ليسألوا فيعرفون ويؤمنون ويتبعون شخص يسوع المسيح. فيوحنا صاحب مبدأ "ينبغى أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص" (يو3: 30).
10- مات هيرودس وهيروديا وذهبا إلى الجحيم، لكن بقيت رسالة يوحنا "لا يحل لك"، ورسالة الصبر والشهادة درسًا إلى الأبد لكل المؤمنين الصابرين، وتشهد السماء والأبدية عن إكليل المجد لهذا القديس المبارك. ليتنا ننظر إلى سيرتهم ونتمثل بإيمانهم.
د. إيهاب ألبرت
Drehabent @ hotmail.com