"لا تهتموا للغد. لأن الغد يهتم بما لنفسه. يكفي اليوم شره" ( مت 6: 34 )
يختم الرب حديثه بهذا التحريض للمرة الثالثة "لا تهمتوا"، لكنه يضيف هذه المرة قائلاً "لا تهمتوا لأن الغد يهتم بما لنفسه". من هذا يتضح أن القلق عادة لا يكون بسبب الحاضر المعلوم، بل بسبب الغد المجهول. ليس معنى ذلك أن الرب ينهانا عن التفكير في الغد، فمن المهم أن نفكر في الغد وأن نستعد له إذا جاء. لكن الرب يحذرنا من الخوف والقلق بالنسبة لأمور الغد.
ما لزوم القلق؟ وما فائدته؟ ولماذا لا تنام ليلتك خوفاً مما سيأتي به غدك؟ ولماذا تجمع في مخيلتك كل المصاعب الممكن حدوثها، ثم تحس بخيبة الأمل لأنك لن تستطيع التغلب عليها؟ إن الاهتمام والقلق لا يسلبان من الغد أخطاره، بل يسلبان من اليوم فرحه وانتصاره.
ثم تذكّر أن الأمس ولى وراح ولم يَعُد بوسعي أن أغير ما حدث فيه، والغد لم يأتِ بعد، وليس بوسعي أيضاً أن أعرف كيف سيأتي، وعليه فلم يبق أمامي سوى الحاضر الذي أعيش فيه. فلأعشه فيما يمجد الله، ولأحذر من أن تضيع هذه الفرصة الثمينة في أن أعمل ما في طاقة يدي لخدمة سيدي.
لقد قال الحكيم "لا تفتخر بالغد" ( أم 27: 1 )، أما الحكمة نفسه فقال "لا تهتموا للغد". كلنا مسافرون صوب الأبدية، والمسافر الحكيم لا يجمع في مخيلته كل الحجارة المبعثرة على طول طريق رحلته، ويكومها جبلاً عالياً يمنع المرور، ثم يقول بحزن: لن يمكنني مهما أوتيت من القوة اجتياز هذا الجبل الجاثم أمامي. بل إن المسافر الحكيم أيضاً لا يحاول عبور القنطرة قبل بلوغها. أما المؤمن الحكيم فإنه يثق في وعود الرب الكثيرة والمشجعة، ومن ضمن هذه الوعود "لا يدع رجلك تزل" ( مز 121: 3 )، وأيضاً "لا تُصدم بحجر رجلك" ( مز 91: 12 )، وأيضاً "لا تخف لأني معك، لا تتلفت لأني إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين بري" ( إش 41: 10 ).
نعم كما قال المسيح "يكفي اليوم شره"، فاليوم الواحد يحمل معه من المتاعب والمشكلات ما يكفي لليوم. أما أن تستعير من الغد بعض متاعبه ومشكلاته، فهذا يجعل يومك لا يُحتمل. وكما أن شرور الأيام تتجدد مع الأيام، هكذا أيضاً مراحم الرب وأمانته من نحونا. قال داود في مزموره الشهير "إنما خير ورحمة يتبعانني كل أيام حياتي" ( مز 23: 6 )، وقال أيضاً "رحمة الله هى كل يوم" ( مز 52: 1 )، وقال إرميا "إنه من إحسانات الرب أننا لم نفن، لأن مراحمه لا تزول. هى جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك" ( مرا 3: 22 ،23).