"لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد" ( في 2: 7 )
"لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب". ( في 2: 7 ،8)
هل ندرك إلى أي درجة اتضع حبيبنا؟! اسمعه في هذا المزمور يقول تلك الكلمات العجيبة "أما أنا فدودة لا إنسان". إنها مسافة لا تُقاس، تلك المسافة التي بين قول الرب قديماً لموسى في (خروج 3: 14 ) "أهية" وهي بعينها نفس العبارة التي قالها للذين أتوا ليقبضوا عليه في البستان "أنا هو"، وقوله بعد ساعات معدودة في الجلجثة "أنا دودة"!
وليمكننا فهم تلك المسافة بصورة أفضل دعنا نقسمها إلى نزولين لا نزول واحد. وما أعظمهما من نزولين نزلهما المسيح من أجلي ومن أجلك!
النزول الأول من السماء إلى الأرض، من حضن الآب إلى مزود بيت لحم. وذاك الذي لا بداية أيام له ولا نهاية حياة، يقول عنه الملاك للرعاة "تجدون طفلاً". واللابس النور كثوب، يصفه الملاك للرعاة بهذا الوصف "مقمّطاً" والذي يقول عنه سليمان إن السماء وسماء السماوات لا تسعه، يقول عنه الملاك "مضجعاً في مذود".
تفكري يا نفسي في أعجوبة الأعاجيب هذه. إنه أمر فوق المدارك أن الله العظيم يُقال عنه تجدون طفلاً، واللابس النور يلبس أقمطة كأي طفل صغير، بل ويضجع في المذود، كما لم يحدث مع باقي الأطفال. والذي لا تسَعه السماء وسماء السماوات لم يولد في بيت ذهبي أو حتى ترابي، بل وُلد في مذود إذ لم يكن له موضع في المنزل!!.. فما أعظم هذا الاتضاع! لاق بالنبي أن يقول "من صدق خبرنا ولمن استُعلنت ذراع الرب" ( إش 53: 1 ).
لكن هذا كله كان فقط المرحلة الأولى في اتضاعه، وليس كل الاتضاع. حقاً لقد صار إنساناً، وهو يقول عن نفسه أكثر من مرة إنه إنسان "أنا إنسان كلمكم بالحق" ( يو 8: 40 ). الله العظيم رضي أن يقول عن نفسه إنه "إنسان". لكن هناك مرحلة ثانية يعبر عنها هنا بالقول "أما أنا فدودة لا إنسان". في خطوة الاتضاع الأولى، نزل من السماء إلى الأرض "وُضع قليلاً عن الملائكة" لكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة وُضع أيضاً قليلاً عن البشر . "أما أنا فدودة لا إنسان"، وذلك عندما مضى إلى الجلجثة، وعُلق فوق الصليب!
ما أعجب هذا النزول المزدوج والتواضع المثنى: فالمسيح لم يتجسد فقط بل إنه مات. ليس فقط ضمه مذود بل ضمه أيضاً قبر، ليس فقط لفوه بالأقمطة بل أيضاً لفوه بالأكفان. محيى الرميم الذي له وحده عدم الموت سيق للصلب واللحد !!